كشفت المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها الجديد حول نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 أن الهجرة الداخلية بالمغرب أصبحت ظاهرة بنيوية ذات تأثيرات اقتصادية واجتماعية عميقة، تسهم في إعادة تشكيل الخريطة السكانية للبلاد وتكريس ما وصفته بـ«المغرب ذو السرعتين».
وحسب التقرير، فإن نحو 40 في المئة من المغاربة غيّروا مكان إقامتهم مرة واحدة على الأقل خلال حياتهم، مقابل 59.7 في المئة ظلوا مستقرين في أماكن ولادتهم. ورغم أن هذه الحركية يفترض أن تساهم في إعادة توزيع السكان والفرص بين الجهات، إلا أنها تحولت إلى عامل من عوامل تفاقم الفوارق المجالية، خصوصاً مع بروز ظاهرتين أساسيتين: تأنيث الهجرة وفقدان الجهات الداخلية لرأسمالها البشري الشاب.
أبرز التقرير أن نسبة النساء المهاجرات داخلياً بلغت 55.1 في المئة مقابل 44.9 في المئة للرجال، ما يعكس تحولاً واضحاً في طبيعة الهجرة الداخلية، إذ باتت النساء، خصوصاً في الوسط القروي، الأكثر استعداداً للانتقال نحو المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط وطنجة، سعياً وراء فرص التعليم والعمل والاستقلال الاجتماعي. وتشكل الهجرة بين المدن النسبة الأكبر من التدفقات بنسبة 45.6 في المئة، تليها الهجرة القروية – الحضرية بنسبة 34.1 في المئة.
وفي المقابل، بيّن التقرير أن خمس جهات رئيسية تعرف عجزاً ديموغرافياً متزايداً، تتصدرها جهة مراكش – آسفي التي فقدت نحو 767 ألف نسمة، تليها جهة درعة – تافيلالت التي خسرت أكثر من نصف مليون نسمة. هذا النزيف الديموغرافي يؤدي إلى تراجع في اليد العاملة الشابة وارتفاع معدلات الشيخوخة، مما يهدد الأنشطة الاقتصادية المحلية، خاصة الفلاحية منها.
أما على مستوى الاستقطاب، فقد جاءت جهة الدار البيضاء – سطات في الصدارة بأكثر من 833 ألف وافد جديد، تليها جهة الرباط – سلا – القنيطرة، ثم جهة طنجة – تطوان – الحسيمة التي سجلت بدورها معدلات احتفاظ عالية بالسكان الأصليين. ويرى التقرير أن هذه الدينامية تزيد من تركّز الثروة والفرص في المدن الكبرى، مقابل تراجع التنمية في المناطق الداخلية.
وأشار التقرير إلى أن هذه التحولات تعمّق ظاهرة «الجهوية ذات السرعتين»، حيث تتركز الثروة والبنية التحتية والخدمات في سبع جهات كبرى، بينما تعاني باقي المناطق من ضعف الاستثمار وتراجع النمو الذاتي. كما حذّر من أن الضغط السكاني على المدن الكبرى يهدد بتوسع عمراني غير منظم وتدهور بيئي، ما يستدعي مقاربة متوازنة في توزيع المشاريع التنموية.
وفي المقابل، أظهر التقرير أن الجهات الجنوبية تسجل دينامية سكانية إيجابية بفضل المشاريع الكبرى المنجزة، إذ استقبلت جهة الداخلة – وادي الذهب نحو 62 في المئة من الوافدين الجدد، تليها جهة العيون – الساقية الحمراء بنسبة 48 في المئة، ما يجعلها من الأقاليم الصاعدة ديموغرافياً واقتصادياً.
واختتم التقرير بدعوة صريحة إلى تحقيق عدالة ترابية تضمن توزيعاً منصفاً للفرص بين الجهات، عبر إعادة توجيه الاستثمارات نحو البنيات الاجتماعية والتعليمية والصحية في المناطق الهشة، وخلق فرص شغل محلية، خصوصاً لفائدة النساء، بما يعزز الاستقرار الديموغرافي ويحد من الفوارق بين المغرب النافع والمغرب الهش.